ولادة وابن زيدون

ابن زيدون هو أشهر صوت شعري انطلق في ربوع الأندلس، مغردًا، مردّدًا أحلى القصائد والمقطوعات، شاعرًا ووزيرًا وعاشقًا مستلهمًا، وسجينًا وهاربًا ومطاردًا، وساعيًا من بلدة إلى بلدة ومن حاكم إلى حاكم.
وأتيح لشعره من الذيوع ما لم يتح لغيره من شعراء الأندلس.
وهو الملقب بذو الوزارتين.
وهو الكاتب الشاعر الرقيق عاشق ولاّدة بنت المستكفي.
حتى لقد شبهه الكثيرون ببحتريّ الشرق لرقة تعبيره وروعة أساليبه وانطلاق خياله وأصالة فنه وقدرته على التحليق الشعري.
ولد ابن زيدون في قرطبة قرب ختام القرن الرابع الهجري سنة ثلاثمائة وأربع وتسعين وبها تثقف وأتقن فنَّ الأدب : شعره ونثره.
ثم اتصل بابن جمهور وصار وزيره وكاتبه الأول حتى كان حبه لولادة ومزاحمة ابن عبدوس له في حبها، ومكيدته له عند ابن جمهور التي انتهت بسجنه.
ومن السجن كان ابن زيدون يرسل أنات مستعطفة وقصائد مليئة بالشكوى والمرارة والرجاء، فلا يلتفت إليه أحد.
ونجح ابن زيدون في الفرار من السجن ومغادرة قرطبة، ثم عاد إليها بعد أن تُوفي أبو الحزم بن جمهور وتولى الحكم ابنه الوليد، الذي أعاده إلى سابق مكانته ومنزلته وجعله سفيرا بينه وبين ملوك الطوائف.
لكن الحسد والحقد والدسائس تلاحق ابن زيدون من جديد، فانقلب عليه الوليد، واضطر إلى الفرار من قرطبة ثانية، وظل متنقلا في الأندلس، حتى لقي تيسر له الامر لدى المعتضد حاكم إشبيلية.
وبموت المعتضد، أصبح ابن زيدون وزير ابنه المعتمد الذي كان شاعراً، فعلي مقام ابن زيدون، وتألق نجمه، ولمعت مواهبه وزكت شاعريته، ودارت بين الأمير ووزيره مطارحات شعرية كثيرة.
ثم تم للمعتمد الاستيلاء على قرطبة موطن ابن زيدون وانتقل إليها وجعلها عاصمة ملكه.
وثارت في إشبيلية فتنة طائفية بسبب اليهود فأرسل المعتمد ابن زيدون لتهدئتها بما له من منزلة في قلوب الإشبيليين، لكن الشاعر الذي كان قد هرم وشاخ وأنهكه المرض لا يكاد يصل إلى إشبيلية حتى ألحت عليه الحمى ومات فيها سنة أربعمائة وثلاث وستين من الهجرة.
هذه الحياة العاصفة المتقبلة، وهذه الأحاديث الجسيمة المتتالية، صقلت وجدان ابن زيدون وألهبت قدرته الشعرية، وانعكست في شعره تفننا في الشكوى والحنين والتأمل والنظر في مصائر الأيام وتقلب الزمان.
لكن أبعدها غورا في نفسه هو حبه لولادة بنت المستكفي، التي كانت تُقرّبه حينًا ثم تقرب غريمه ومنافسه ابن عبدوس حينًا آخر.
ومن أجل ولادة كتب ابن زيدون نونيته الرائعة أشهر قصائده على الإطلاق والتي عارضها أحمد شوقي وهو يعاني بدوره مرارة النفي والاغتراب في إسبانيا بنونيته التي مطلعها:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا ** نأسى لواديك أن نشجي لوادينا
والتي جعلت الكثيرين من المولعين بالمقارنات يتوقفون عند القصيدتين، تأملا وتحليلا وتقييما ومقارنة، كما توقفوا عند السينيتين : سينية البحتري وسينية شوقي للسبب نفسه.
يتميز شعر ابن زيدون بالعذوبة وتوفر النغم الموسيقي والسهولة، كما يتميز بالانسياب والاسترسال والتدفق في طواعية ويُسْر، ودون جهد أو تعب، وشعره في الغزل يتميز بالنعومة والبراعة في التصوير، تصوير خلجات النفس ومكنون أسرارها، ولوعة المحب الصادق في معاناته ومكابدته، كما يتميز بمزجه الغزل بوصف الطبيعة، مما أعطى لقصائده في الحب إطارها الطبيعي المشرق، وجعلها شبيهة باللوحات المصورة، الناطقة بالفن الرفيع والشعور الحي المرهف، والوجد المتقد.
يقول الدارسون لحياة ابن زيدون وشعره، إنه كتب نونيته تلك وهو هارب من السجن بعد أن يئس من إقناع ابن جمهور بإطلاق سراحه، وأصبح بعيدًا عن مركز الوزارة المرموق، فوجد نفسه بعيدا عن ولادة أيضًا.
ولقد عادت إليه حريته بالهرب من السجن، ولكنه ما يزال يعاني غربتين أو معضلتين، الوزارة التي يصبو إليها، والتي يعتبر عودته إليها تصحيحا لمسار حياته وتكريما لذاته، وولادة التي بذل لها نفسه وعصارة قلبه وخلاصة شعره والتي يخشى أن يفقدها إلى الأبد.
إن الشاعر العاشق يستعطف محبوبته وضالته ويُذكرها بأيامها الماضية، لعلها ترقُّ وتلين، فيعود ثانية ما كان بينهما من ريق الوصال، وأنس الوداد.
يقول ابن زيدون مخاطبًا ولادة.