قيس ولبنى


من هذه القصص الشهيرة حكاية قيس آخر، هو قيس بن ذريح الذي عشق لبنى في زمن معاوية.
في نفس الوقت الذي شهدت نجد فيه مأساة مجنون ليلى شهد الحجاز مأساة أخرى من مآسي الحب العذري بطلاها قيس بن ذريح وصاحبته لبنى.
هو مضري من كنانة، وهي يمنية من خزاعة، تجمع بينهما صلة نسب من جهة الأم، فقد كانت أم قيس خزاعية.
وكانت منازل كنانة في ظاهر المدينة، ومنازل خزاعة في ضواحي مكة.
كان قيس ابن أحد أثرياء البادية، وكان أخا من الرضاعة للحسين بن علي.
وذات يوم حار كان قيس في إحدى زياراته لأخواله الخزاعيين وهو يسير في الصحراء شعر بالعطش الشديد، فاقترب من إحدى الخيام طالبا ماء للشرب ، فخرجت له فتاة طويلة القامة رائعة الجمال ذات حديث حلو هي لبنى بنت الحباب .
استسقاها فسقته ، فلما استدار ليمضي إلى حال سبيله دعته لأن يرتاح في خيمتهم قليلاً ويستبرد ، فقبل دعوتها وهو يتأملها بإعجاب شديد .
وتقول الحكاية أن أباها الحباب جاء فوجد قيسا يستريح عندهم فرحب به وأمر بنحر الذبائح من أجله واستبقاه يوما كاملاً.
ثم تردد عليها وشكا لها حبه فأحبته.
وعندما عاد قيس ، مضى إلى أبيه يسأله أن يخطبها له فأبى.
فالأب ذا الثراء العريض كان يريد أن يزوجه واحدة من بنات أعمامه ليحفظ ثروة العائلة .
لقد كان أبوه غنيا كثير المال، وكان قيس وحيده، فأحب أن لا يخرج ماله إلى غريبة، وقال له : بنات عمك أحق بك.
فمضى إلى أمه يسألها أن تذلل له العقبة عند أبيه، فوجد عندها ما وجد عنده.
لم يجد قيس أذنا صاغية ، ومع ذلك لم ييأس ولجأ إلى الحسين بن علي وكان أخاه في الرضاع، فقد أرضعته أم قيس معه ووسطه في الأمر.
وشاء الله أن تكلل وساطة الحسين بالنجاح.
فلقد مضى الحسن إلى الحباب والد لبنى، ثم مضى إلى ذريح والد قيس، واستطاع أن يجمع بين العاشقين برباط الزوجية المقدس.
وتحقق لقيس أمله وتزوج من لبناه، لكن القدر أبى عليهما سعادتهما ولم يشأ للعاشقين أن يتحولا إلى زوجين عاديين ممن يقتلهما السأم.
وظل الزوجان معا، لعدة سنوات دون أن ينجبا، ودون تردد أشاعت الأسرة أن لبنى عاقر .
وخشي أبواه أن يصير مالهما إلى غير ابنهما ، فأرادا له أن يتزوج غيرها لعلها تنجب له من يحفظ عليهما مالهما.
ولما كان أبو قيس تواقا لذرية تتوارث ثروته الطائلة، فقد ألح على ابنه أن يتزوج من أخرى لتنجب له البنين والبنات.
لكن قيسا أبى .. لقد أشفق على لبنى من ضرة تشقيها وتعذبها .
كما رفض أيضا أن يطلق زوجه الحبيبة، وتحرجت الأمور بينه وبين أبويه، إنهما مصممان على طلاقها، وهو مصمم على إمساكها.
وظل الأب يلح ويسوق عليه كبار القوم، دون جدوى وإمعانا في الضغط عليه أقسم الأب ألا يظله سقف بيت طالما ظل ابنه مبقيا على زواجه من لبنى .
فكان يخرج فيقف في حر الشمس، ويأتي قيس فيقف إلى جانبه ويظله بردائه ويصلي هو بالحر حتى يفيء الظل فينصرف عنه، ويدخل إلى لبنى ويبكى وتبكى معه، ويتعاهدان على الوفاء. وتأزمت المشكلة، وساءت العلاقات بين طرفيها، واجتمع على قيس قومه يلومونه ويحذرونه غضب الله في الوالدين، وما زالوا به حتى طلق زوجه.
كان قيس شديد البر بوالده فلم يشأ أن يتركه يتعذب في الهجير، واضطر اضطرارا لأن يطلق لبنى.
رحلت لبنى إلى قومها بمكة، وجزع قيس جزعاً شديداً، وبلغ به الندم أقصى مداه، وتحولت حياته إلى أسف لا ينتهي، وندم لا ينقطع، ودموع لا تتوقف، وحسرات لا تقف عند حد، ولم يجد أمامه سوى شعره يبثه أسفه وندمه ودموعه وحسراته.
يقول مرة :
يقولون: لبنى فتنة كنت قبلها ** بخير، فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي، وعصيت ناصحي ** وأقررت عين الشامت المتخلق
وددت، وبيت الله، أني عصيتهم ** وحملت في رضوانها كل موبق
وكلفت خوض البحر، والبحر زاخر ** أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ** عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ** ويكره سمعي بعدها كل منطق
ويقول أخرى :
وفارقت لبنى ضلة فكأنني ** قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت أني مت قبل فراقها ** وهل ترجعن فوت القضية ليت
فصرت وشيخي كالذي عثرت به ** غداة الوغى بين العداة كميت
فقامت، ولم تضرر هناك، سوية ** وفارسها تحت السنابك ميت
فإن يك هيامي بلبنى غواية ** فقد يا ذريح بن الحباب، غويت
فلا أنت ما أملت في رأيته ** ولا أنا لبنى والحياة حويت
فوطن لهلكى منك نفسا فإنني ** كأنك بي قد يا ذريح، قضيت

لم يتوقف قيس عن ملاحقة لبنى بعد الطلاق .
فلم يطق عن لبنى صبرا، واشتد حنينه لها، وشوقه إليها، فعاود زيارتها، وشكاه أبوها للسلطان معاوية، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم يهدر دم قيس إن هو تعرض للبنى ، وحيل بينه وبينها مرة أخرى.
ومرة أخرى لا يجد أمامه سوى شعره يبثه أحزانه وآلامه :
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ** مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ** ولن يذهبوا ما قد أجن ضمير
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ** ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى ** وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة ** بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ** بأنعم حال وغبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم ** بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام ** وصلنا ولكن ما الدنيا متاع غرور
ومع ذلك فقد كانت تتاح للعاشقين من حين إلى حين فرصة لقاء يائس حزين تزداد معه حرق الحب تأججاً واشتعالا، ويتجسم بعده الشعور بالحرمان، والإحساس بالحسرة والندم.
وساءت حال قيس، واعتلت صحته، وأصابه هزال وذهول شديدان، وأشار قومه على أبيه أن يزوجه عله ينسى حبه القديم.
وتزوج قيس كارها زواجاً لا سعادة فيه، وبلغ الخبر لبنى فتزوجت هي أيضاً زواجا لا سعادة فيه،
وتقول الروايات أن لبنى لما سمعت بإهدار دم قيس قبلت الزواج من رجل آخر وهو خالد بن حلزة، لكي تجبر قيسا على الابتعاد عنها وتحميه من القتل ، وأن قيسا تزوج بعد سماعه بزواج لبنى.
أيا كانت الروايات فلبنى فعلت ذلك وهي ما تزال تكن كل الحب لزوجها السابق قيس ، وقيس كان يعلم بذلك.
كان قيس يعرف أن لبنى تحبه بمقدار ما أحبها، فركب راحلته وذهب إلى خيام أهلها وهناك راح ينشد الشعر.
يقول قيس بن ذريح مصورا كيف يروض نفسه على الرضا بالحرمان الذي فرض عليه، والتشبث بالآمال الضائعة التي أفلتت منه :
إن تك لبنى قد أتى دون قربها ** حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الليل يجمع بيننا **ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي ** ونعلم أنا بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار، وفوقنا ** سماء نرى فيها النجوم تجول
إلى أن يعود الدهر سلما ** ترات بغاها عندنا وذحول
ويقول قيس بن ذريح مصورا عجزه عن نسيان لبنى، وكيف يخونه الصبر كلمامرت به ذكراها: