جميل وبثينة

قريبا من الوقت الذى شهدت فيه نجد مأساة قيس وليلى، وشهد الحجاز مأساة قيس ولبنى، شهدت أرض بنى عذرة مأساة أخرى من مآسى الحب العذرى، هى مأساة جميل وبثينة.
إذا كانت مأساة قيس وليلى على شهرتها المستفيضة أشد هذه المآسي اختلاطاً واضطرابا لكثرة ما دخلها من وضع الرواة، وتزيد القصاص، وأوهام السمار، فإن مأساة جميل وبثينة أبعد هذه المآسي عن الاختلاط والاضطراب، وأقربها إلى الواقع الذي نجا من عبث أصحاب الرواية والقصص والسمر.
حدثت القصة في العصر الأموي وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان أو الخليفة الوليد بن عبد الملك.
كانت بثينة فتاة من بني الأحب، وهم من رهط بني عذرة، وكذلك جميل، كان من رهط آخر من بني عذرة هم رهط عامر، وبني عذرة كانت تنزل في البادية العربية شمال الحجاز، في وادي القرى الذي يقع على مقربة من الطريق التجاري بين مكة والشام ، وهو واد خصب، استقرت به تلك القبيلة، وكانت مشهورة منذ العصر الجاهلي بالقوة والمنعة والشرف.
وقد دخلت بنو عذرة الإسلام في السنة السابقة للهجرة، وشارك أبناؤها في غزوات الرسول وفي الفتوحات الإسلامية .
أحب جميل بن معمر العذري بثينة بنت الحباب وبدأت القصة كالتالي :
رأى بثينة وهو يرعى إبل أهله، وجاءت بثينة بإبل لها لترد بها الماء، فنفرت إبل جميل، فسبها، ولم تسكت بثينة وإنما ردت عليه، أي سبته هي أيضاً.. وبدلا من أن يغضب أعجب بها، واستملح سبابها فأحبها وأحبته، وبدأت السطور الأولى في قصة هذا الحب العذري الخالدة.
حيث تطور الإعجاب إلى حب، ووجد ذلك صدى لديها، فأحبته هي أيضاً، وراحا يتواعدان سرا.
يقول جميل :
وأول ما قاد المودة بيننا ** بوادي بغيض، يا بثين، سباب
فقلنا لها قولا فجاءت بمثله ** لكل كلام، يا بثين، جواب
وتمر الأيام، وسطور القصة تتوالى سطراً بعد سطر.
لقد اشتد هيام جميل ببثينة،واشتد هيامها به، وشهدت أرض عذرة العاشقين يلتقيان ولا يكاد أحدهما يصبر عن صاحبه.
وكلما التقيا زادت أشواقهما، فيكرران اللقاء حتى شاعت قصتهما، واشتهر أمرهما، ووصل الخبر إلى أهل بثينة ، فتوعده قومها، وبدلاً من أن يقبلوا يد جميل التي امتدت تطلب القرب منهم في ابنتهم رفضوها، وأبوا بثينة عليه وردوه دونها، وتوعدوه بالانتقام، ولكي يزيدوا النار اشتعالاً سارعوا بتزويج ابنتهم من فتى منهم، هو نبيه بن الأسود العذري.
وكان جميل من فتيان عذرة وفرسانها الأشداء، وكان قومه أعز من قوم بثينة، فوقف في وجههم فجميل لم يستسلم، بل راح يتحدى أهل بثينة، ويهزأ بهم، ويهددهم منشدا :
ولو أن ألفا دون بثينة كلهم ** غيارى، وكل حارب مزمع قتلي
لحاولتها إما نهارا مجاهرا ** وإما سرى ليل ولو قطعت رجلي
ويقول أخرى:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ** وهموا بقتلي، يا بثين، لقوني
إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ** يقولون: من هذا ؟ وقد عرفوني
يقولون لي: أهلا وسهلا ومرحبا ** ولو ظفروا بي خاليا قتلوني

ولم يغير هذا الزواج من الحب الجارف الذي كان يملأ على العاشقين [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]هما، فقد كان جميل فارسا شجاعا يعتز بسيفه وسهامه، فلم يتأثر حبه لبثينة بزواجها، ووجد السبل إلى لقائها سراً في غفلة من الزوج.
وظلت العلاقة بينهما كما كانت من قبل، يزورها سرا في غفلة من زوجها، أو يلتقيان خارج بيت الزوجية، وما بينهما سوى الطهر والعفاف.
وكان الزوج يعلم باستمرار علاقة بثينة بجميل ولقاءاتهما السرية، فيلجأ إلى أهلها ويشكوها لهم، ويشكو أهلها إلى أهل جميل.
لكي تتوقف اللقاءات فترة، ثم تعود أقوى وأشد مما كانت.
فبثينة لم تكن تعبأ بما قد يفعله زوجها أو أهلها لقد أرغموها على الزواج بمن لا ترغب، وكان من رأيها عليهم أن يتحملوا وزر فعلتهم.
وتحدث إليه أهله في أمر هذه العلاقة الغريبة التي لا أمل فيها، وهذا الإلحاح الذليل خلف امرأة متزوجة، وحذروه مغبة الاندفاع في هذا الطريق الشائك الوعر، وما ينطوي عليه من عواقب وخيمة، وهددوه بأن يتبرؤوا منه ويتخلوا عنه إذا استمر في ملاحقته لها ، ولكنه لم يستطع أن يبرأ من حبه لبثينة.